محمد عدلي يكتب: فوق السما
منذ خمس سنوات وأنا استيقظ يوميًا في الثامنة صباحًا، حتى أصل لعملي في تمام العاشرة، أجهز ملابسي وأتأنق ثم أنظر لنفسي في المرآة وأضحك ضحكة سخرية على اهتمامي المبالغ فيه ثم أنصرف.
يبدو أن اليوم هادئا، اقتربت ولا اسمع حتى الآن عويل أو صريخ أو بكاء ولم أر سيارات يسبقها سيارة مكتوب عليها تكريم الأنسان، حسنًا سأقوم بعملي لعل عميل كريم يشرفني في المكتب لاختيارمدفن جديد أو تجديد مدفن عائلته القديم.
يناير 2005
ورثت أنا محمد جلال عبد المولى مهنة أبي، لم يكن تربيا لكنه كان تاجر أراضي، يشتري عدة أراضي ويبيعها بعد عدة شهور أو ربما سنوات يرتفع فيها السعر ويكون الفارق هو مكسبه، منذ عشرين عاما اشترى والدي قطعة أرض كبيرة في منطقة السادس من أكتوبر قال عنها وقتها أنها في مكان ” لقطة”، وستكون مقرًا لمباني ضخمة مرفهة في المستقبل، وبالفعل بدأت تلك المنطقة تزدهر وتصبح أكثر جمالًا ورفاهية، انتظر والدي كثيرًا ليبيعها، شهور وسنين على أمل أن يعوضه الفارق بين مبلغ الشراء والبيع عن تلك المدة، ولكن تخطيط المحافظة وقتها لم يآت كما يشتهي والدي، قررت المحافظة تخصيص قطع أراض معينة في تلك المدينة الجديدة لتصبح جبانات، وكانت قطعة أرض والدي جزء منها، بعد عدة شكاوي و وسائط لم تثمر بأي فائدة استسلم والدي للأمر الواقع ليتحول من تاجر أراضي لتاجر مقابر وجبانات.
بعد مرور سنة، وجد والدي أن مهنته الجديدة ليست سيئة، بالعكس أنها مربحة وتوفر لنا دخلًا أكبر بكثير من تجارة الأراضي بشكل عشوائي، وعندما تحدثنا معه في الأمر أنا وأشقائي قال لنا إنها مسئلة تعود ليس أكثر وأن تجارة القبور لا تفرق كثيرًا عن تجارة الفاكهة أو السيارات، جميعهم تجارات مربحة وتجعل صاحبها ميسور الحال، قرر وقتها افتتاح مكتبه لبيع وتجديد الجبانات باسم (مكتب جلال وأولاده لبيع الجبانات) وبدأ في كتابة العروض على حائط المكتب (حوش 35 مترا بالتقسيط المريح على 10 سنين.. جهز حوش عائلتك بالرخام بـ10آلاف جنيه فقط)، وتحول والدي الحاج جلال عبد المولى لأهم تاجر مقابر في منطقة أكتوبر.
أغسطس2007
أهداني والدي سيارة حديثة عندما أنهيت دراستي الثانوية والتحقت بكلية التجارة، أصبحت منذ السنة الأولى مميز وسط زملائي ومعروف أنني من أسرة ثرية، وعندما كان يسألني أحدهم عن عمل والدي كنت أتفادي الإجابة بشكل صريح وأقول (تاجر عقارات)، على كل حال أنا لا أكذب لأن الجبانات تعتبر سكن، سكن دائم، وكما يوجد تجار للمساكن المؤقتة وبالتأكيد هناك تجار للمساكن الدائمة.
تدهورت صحة والدي وأصبح غير قادر على مباشرة عمل المكتب بمفرده، وبما أنني نجله الأكبر وأدرس التجارة والحسابات، قررت متطوعًا دون أي ضغط منه أن أساعده رغم خوفي من المقابر وعدم قدرتي على حب هذه المهنة وتقبلها كباقي المهن، أصبحت تاجر قبور وأنا في عامي الأول في كلية التجارة.
حاولت كثيرا أن أقنع عقلي أنها مهنة كباقي المهن، مثلًا كأنني أعمل في بنك أو مكتب من مكاتب المحاسبين الكبار، أتأنق وأرتدي أفضل ملابس لدي، لأقابل الجنازات ووأهالى المتوفى الذين لا يملكون وقتا حتى للنظر في وجهي، وعلى أقل تقدير يأتي إليي عميل قرر شراء قبر جديد، المكان يبعث في قلبه الخوف كأي شخص غير معتاد على زيارة المقابر باستمرار، الخوف من المكان ومن الموجودين في هذا المكان الذي يكسوه اللون الأصفر ويملؤه الهدوء.
اقترابي من الموت بشكل يومي جعلني أخشى أن أنسى الحياة، كنت أذهب سرًا كل أسبوع لإحدى المستشفيات التخصصية وأقف أمام الحضانات لرؤية الأطفال حديثي الولادة، أبحث فيهم عن الحياة، أعاين تحت الأرض غرف الدفن مع عميل وأذهب بعدها مباشرة لبرج القاهرة، أقف في أعلى قمة وأحاول أن ألمس السماء وأبعد عن خيالي صورة غرف الدفن و الجنازات، كلها محاولات.
أكتوبر 2009
في السنة الثانية بكلية التجارة، صارحت إحدى زميلاتي (هاجر) بالسر المدفون في قلبي، تبادلان الإعجاب و بعد عدة لقاءات خارج الجامعة طلبت منها أن أتقدم لها لكنني أملك سرا قد لا تتقبله، قلت لها أن والدي تاجر عقارات لكنها عقارات من نوع خاص، الحاج جلال عبد المولى يتاجر في الجبانات أو القبور وهو يساعده، تبدلت ملامحها قليلًا ثم قالت بشجاعة أن ذلك لا يعنيها تمامًا وأنها تحبه وستقنع أهلها، لم يمر سوى أيام معدودة وكانت كلية التجارة جامعة القاهرة كلها تعلم أن والد هاجر رفض مقابلة محمد جلال عبد المولى لطلب الزواج من ابنته بعد علمه بحقيقه عمل والده في بيع المقابر، وأن والدها قال لها أنه يتاجر في الموت وسيكون فأله شوؤم عليها، حطمت هاجر حصون السر الذي أخفته سنة وبضعة شهور عن زملائي، على كل حال كانوا سيعلمون في يوًما ما.
أصبحت أقف في منتصف طريق لا استطيع الذهاب يمينًا ولا يسار، لا استطيع أن أحيا حياة موظف طبيعي ولا قادر على حياة تاجر المقابر بما تفرضه من أسلوب وشكل معين قد لا يتقبله الكثيرين، أملك مالًا وفيرًا لكنني لا أفعل به شيئا سوى شراء بعض الأراضي المجاورة وبناء مقابر وأحواش جديدة ووضع إعلانات عنها، أصبحت مشكلتي أكبر كثيرًا من مشكلة والدي الذي بدأ المهنة بعد أن أحب وتزوج وأنجب وأصبح لديه أسرة مصيرها من مصيره، أنا الآن إما أن أقبل بزوجة والدها من معارف أبي، تعلم طبيعة حياتنا، أو التخلي عن مهنة والدي، أو أن أخدع إحداهن ولا أصارحها بحقيقة عمل أسرتي وعملي إلا بعد الزواج، وأنا قررت ألا أفعل غير الوقوف في المنتصف
نوفمبر 2009
بعد دفن أحد الأسر لفقيدهم، انصرفوا جميعا ماعدا تلك الفتاة التي وقفت تناجي وتعاتب المتوفى بدموع وكلمات غير مسموعة، اندهشت من تركهم لها ورحيلهم بدونها، اقتربت قليلًا دون أن تشعر، سمعتها تقول (احنا مش كنا متفقين تستنى معايا شوية كمان.. طب يعني كنت استنى لحد ما اخد الماجستير وافرحك بيا ونتصور صورة حلوة سوا.. هكمل أنا ازاي الرسمة اللي بقالي شهور برسمهالك دلوقتي) وقبل أن تكمل حديثها الذي أخذ قلبي لاحظت وجودي وقررت الرحيل.
عادت بعدها بيوم وأصبحت تأتي باستمرار، أراها من بعيد دون أن أحاول الاقتراب حتى لا تشعر بتطفلي أو فضولي، مر علي خلال تاريخ عملي في المقابر عدة أنواع من الأهالي، يأتي المتأثر بشدة ومن يرفض فكرة موت عزيز عليه و من يعبر عن حزنه بالنويح والبكاء بصوت مرتفع، وهناك من يأتي وهو يخفي ابتسامة الخلاص وكأنه يدفن همه وحزنه بدفن ذلك الشخص.
فهمت من بعض كلماتها أن المتوفى والدها، أشعر وكأن روحه تعود لجسده مرة أخرى بحضورها للمكان، كأنه يخرج من قبره ويتحدث معها، اعتقد أن الأرواح تشتاق لأجسادها أيضا، تشتاق مثلا عندما تشعر بالسعادة هيترجم الجسد سعادتها لابتسامة جميلة، تحتاج الروح لإن يترجم الجسد اشتياقها لحبيب غاب كثيرا عن طريق عناق طويل، كأن الروح هي العازف والجسد بيانو يخرج المقطوعات الحزينة والسعيدة حسب إحساس العازف وقتها، شعرت أنها تناجي روح والدها كأنها تراها، لكنني فضلت عدم الاقتراب.
في إحدى زيارتي العديدة لبرج القاهرة رأيتها أمامي، تجلس أمام لوحة تكملها، هي بملامحها المضيئة البريئة الحزينة، لم استطع مقاومة فضولي كما أفعل في المقابر، ذهبت وتحدثت معها لأول مرة في حياتي.
اندهشت في البداية من حديثي معها واعتقدت أنني من هؤلاء الذين ينتهزون أي فرصة لوصل حبال الود مع أية فتاة، لكني عرفتها بنفسي وأنني صاحب مكتب الجبانات التابعة له مقبرة والدها، زاد اندهاشها من وجودي في مثل هذا المكان ومن هيئتي، لديها كل الحق بالتأكيد فهي لم تلاحظ وجودي أبدا بخلاف أن هيئتي تشبه موظفي القطاع الخاص وليس بائع قبور، بعدها صارحتها أنني كنت أتلصص عليها أثناء مناجاتها لوالدها وهي لم تبدي أي انزعاج أو غضب بالعكس تحدثنا بعدها طويلا.
تكررت المقابلات، داخل وخارج الجبانات، ميريهان ممدوح الجميل، في الفرقة الثانية لكلية الفنون الجميلة، توفت والدتها مبكرا لذلك ارتبطت جدا بوالدها، تعيش حالة من الإنكار لوفاته، أصبحت تأتي شبه يوميا وأصطحبها لقبر والدها وأتركها بمفردها حتى تنتهي من الحديث معه وتأتي للمكتب، في مرة قالت لي (أنت عارف ان الرسم والمقابر مرتبطين جدا ببعض)، نظرت إليها وصمتت، لا أعلم هل تدهورت حالتها أم أنها تنكت، كيف يرتبط الرسم رمز الفن والجمال بالمقابر رمز الموت؟، استطردت بعدها (بجد صدقني، زمان اجدادنا الفراعنة كانوا بيرسموا في مقابرهم رحلة الميت من عالمنا للعالم الآخر، حتى أيام العثمانين كانوا بينحتوا أشكال ورسومات على مقابرهم، لحد دلوقتي فيه مقابر في نجع حمادي بيرسموا على المقابر عشان يميزوا اللي مدفون دا ست ولا راجل)، واضح أنها تتحدث بجدية وعن دراسة وبحث، لكنما لم استطع فهمه هو اقتران الرسم او النحت بالقبر، لذلك سألتها عن الاستفادة من الرسم على القبور، أجابتني أنهما يتلاقيان عند نقطة التلاقي، فالرسم يعطي للمكان شكلا مختلفا وكأنها ينفخ فيه الروح من جديد، والقبر يحوي جسد غابت روح صاحبه، وكأن الرسم يعطي من روحه للجسد النائم داخل ذلك القبر، تحدثنا طويلا عن الرسم وعن تجارة أبي وعن حياتنا الشخصية وعن أزمة منتصف الطريق التي أعيشها، والتي وجدت حلا لها في نظرتها للرسم وللموت.
الأحد 7 ديسمبر 2009
رغم برودة الطقس، أنتظرها يوميا أنا وجسد والدها الذي يحاوطه الثرى، تناجيه ثم تناجي جروح نفسي وقلبي، أشعر أنها طبيبة وليست رسامة، قررت أن اتخلي قليلا عن خوفي واستجمع ما تبقى من شجاعتي وأخبرها بمشاعري تجاهها، انتظرت يومها حتى عادت للمكتب وقلت لها بشكل مباشر (انا بحبك وعاوز اتجوزك)، مسحت دموعها المتبقية بعد مناجاة أبيها وابتسمت ثم قالت لي (أنا عاوزة أرسمك).