محمد عدلي يكتب: سيريا
10 أغسطس 2010 – الساعة الثالثة عصرًا
انتظرت في محطة مترو رمسيس كعادتي كل يوم وفي حوزتي شنطتي الكبيرة أنتظر المترو، فور اقترابه استعددت وحددت تلك العربة المكتظة بالبشر واعتبرتها هدفي القادم، توقف المترو وأصبحت العربة أمامي مباشرة، بدأ الصراع اليومي بين المغادرين والركاب الجدد، لكنني لا أنشغل بهذا الصراع وأعرف هدفي جيدا، لم أنتظر كثيرا عندما دخلت عربة المترو وبالفعل فتحت شنطتي وبدأت في الهتاف بعلو صوتي “زين بلكونتك .. زين محلك .. علقها على مدخل البيت .. معايا 6 متر سيريا ومش بـ 50 ولا 60 جنيه.. 25 جنيه.. مين قال عاوز؟ مين قال هشتري”.
انتهى اليوم بعد عدة محاولات مني لإقناع ركاب المترو بشراء المنتج الذي أصنعه وأبيعه، على مدار 12 ساعة نجحت في إقناع 5 أشخاص، حسنًا مبلغ جيد يكفي لإكمال التكاليف، وكما قالت أمي قديما (الرزق هو اللي بيدور علينا مش إحنا).
اسمي كامل عبد الرحيم، من صعيد مصر، لكنني جئت القاهرة صغيرا مع والديّ بعدما حصل والدي على عمل حارس عقار في إحدى العمارات بحي راقٍ في العاصمة المزدحمة، خيالي حتى لم يكن يدرك أن هناك مدينة بحجم القاهرة، عشت أول عشر سنوات في حياتي لم أخرج من الشارع الذي نسكن فيه إلا مرات معدودة، منها مرة ذهبت مع صديقي بدافع الفضول لمنزل في شارع مجاور كان يقال إنه مسكون بالأشباح والعفاريت، ذهبت لأرى شكل هذه المخلوقات التي تمثل فزاعة لنا، لكنني قبل أن أقترب من ذلك المنزل شعرت ببرودة غريبة في جسدي لا أعلم مصدرها، وعدت لمنزلي راكضا ونمت يومها في حضن أمي التي صبحتني في اليوم التالي بعلقة ساخنة، ليصبح ذلك المنزل الذي يبعد عن منزلنا بعدة أمتار هو أبعد أماكن الدنيا بالنسبة لي.
أصبت بعدها بمرض ارتفاع ضغط العين، أحد أمراض العيون المنتشرة والتي تصيب يوميا آلاف البشر، لكن أمي صممت أن العفريت قرر أن يعاقبني عندما نظرت إليه في البيت المسكون رغم تأكيدات الطبيب أنه مرض منتشر، وحلها إجراء عملية في العين وسأصبح جيدا لكن نظري سيقل كثيرا، ومن يومها وأنا ارتدي النظارة الطبية.
رفضت بعد مجيئنا القاهرة أن أكون مساعدًا لوالدي في مهنته الجديدة، لا أجيد شراء البضائع من الأسواق ولا جمع أموال النظافة ولا غيرها من المهام التي يقوم بها ، أحببت كثيرًا ذلك المحل الموجود بجوار العمارة وصاحبه يملك قدرة عجيبة في إنارة الأماكن بطريقة فنية مذهلة، كما يقولون عليه (كهربائي أفرنجي)، يصنع البهجة في أي مكان يدخله عن طريق الأنوار التي يعلقها بحرفية وفن في أماكن معينة وبأسلوب أذهلني، كنت أراقبه من بعيد حتى أقنعت والدي أن يتوسط عنده ويَقبلني صبيًّا في المحل حتى أشرب منه الصنعة التي أحببتها.
وافق الأسطى رضا على طلب والدي رغم ضعف عيني الذي يزيد يوميا ويتنافى مع تعلمي صنعة تتطلب نظرًا حادًّا للتركيز في تفاصيل الأسلاك واللمض التي تصنع الأنوار، وكان يدفع لي يومية تكفي احتياجاتي من أكل وشرب وأحيانا أدخر منها لشراء بعض الملابس الجديدة، كان شخصًا كريما للغاية، وبعد أن تعلمت بعض أصول الشغلانة كنت حائرا في فكرة اكتساب خبرة اختيار الأماكن التي تعلق فيها الأنوار لتعطي شكلا فنيا جميلا كما يفعل الأسطى رضا، في البداية حاولت أن أقلده كثيرا لكنه تقليد يشبه المنتجات الصينية تقدم نفس المنتجات العالمية لكن بجودة أقل، لاحظ الأسطى رضا حيرتي وقرر يومها أن يعطيني درسا لن أنساه.
بعد انتهاء العمل ذات يوم، طلب مني الأسطى رضا أن أحضر بعض اللمض الصغيرة الملونة، أو ما يسمونها “سيريا”، ثم طلب مني أن أضيئها، بالفعل قمت بذلك ولكن نورها كان ضعيفا لا يذكر، ثم أغلقت نورها وبعدها أغلق هو نور المخزن بأكمله وطلب مني إضاءتها مرة أخرى، ظهر نورها واضحا على الرغم من ضعفه وأعطى لتفاصيل المكان سحرًا جميلًا مختلفًا عن شكل نفس التفاصيل في حالة الإضاءة الكاملة، وقتها قال لي (ممكن لمضة صغيرة أو حبة نور في آخر الطريق هما اللي يعملوا للمكان اللي احنا فيه روح وشكل مختلفين عن اللي بنشوفهم كل يوم.. السيريا غيرت شكل المكان رغم إنها لمضة صغيرة ضعيفة، لكن نورها مميز ومختلف)، شعرت وكأنه يحدثني عن إنارة روحي لا المخزن، وكأن السيريا أضاءت العتمة التي بداخلي وأظهرت التفاصيل بشكل مختلف ومميز.
من يومها، وأنا أتعامل مع مهنتي دون الحاجة للنظر، أشعر بالأشياء، أحاول أن أحيي مكانًا ما بأباجورة نورها ملون يريح العين ويساعد على راحة الأعصاب، أزين الحدائق كأنك تدخل حديقة في حكايات ألف ليلة وليلة، من يومها وأنا أشعر أنني اسم على مسمى (كامل)، وليس كما كان يتندر على ضعف نظري البعض ويقول لي (كامل ازاي وانت مبتشوفش من غير النضارة؟).
بعد عشر سنوات، لم تعد صحة أبي تتحمل العمل في العمارة، قرر العودة لبلاده مرة أخرى في الصعيد ومعه أمي، لكنني أصبحت مجذوبا بتلك المدينة المزدحمة، وتلك اللمض الصغيرة التي أغير بها شكل الأماكن وأضيف لها من ذوقي جمالا خاصا، أقنعت والديَّ بضرورة استمراري في القاهرة على وعد بزيارتهما كل فترة، وبالفعل بدأت البحث عن سكن مجاور للمحل بعد أن طلب سكان العمارة إخلاء الغرفة المخصصة للبواب قبل حضور الموظف الجديد.
كان يوم ميلادي العشرين سعيدًا، وجدت غرفة على أسطح أحد العمارات المجاورة للمحل الذي أصبحت مسؤولا عنه مسؤولية كاملة بعد ما أنهك العمر والمرض جسد الأسطى رضا وأصبح ملازمًا للفراش، أذهب إليه أسبوعيا بالإيراد كاملا وأحضل فقط على يومية صبي، رغم إلحاحه بأن أحصل على نصف الإيراد إلا إنني رفضت واعتبرت ما أفعله نوعا من رد الجميل، وتوددًا له في جميل آخر أتمنى لو يصنعه لي!
أذهب أسبوعيًا لمنزل الأسطى رضا وأنا في كامل أناقتي، فأنا أتعمد أسبوعيا زيارة سوق الجمعة والحصول على بعض القطع اللقطة التي تأتي استيرادًا بتكلفة بسيطة لأنها مُهرَّبة -أو هكذا يقولون ليقنعونا- أنتظر لحظة فتح باب منزل الأسطى رضا لأراها، تلك الجميلة الخمرية التي تنازلت عن جزء من نورها للشمس وسمحت لها بإنارة الدنيا، سميرة ابنة الأسطى رضا، كأن الله أعطاه ابنة على نفس ذوقه وفنه الرفيع.
تلك هي المرة الأولى لي التي أشعر فيها بالاهتمام ناحية إحداهن، لم أرَ طوال حياتي سوى أمي وسيدات البلدة عندنا ثم ساكنات العمارة والعمارات المحيطة مع أولادهن، والتعامل بيننا يتلخص في التعامل بين سيد وخدم، غير مسموح حتى برفع عيني الضعيفة في وجه إحداهن، سميرة كانت أول فتاة أنظر لعينيها لفترة أطول من دقيقة، ضحكتها وصوتها الناعم كانا يشبهان النور الخافت المضيء في عتمة حياتي، الآن فقط عرفت من أيت جاء الأسطى رضا بهذه الحكمة والفن، من المؤكد كان ينظر يوميا في وجه ابنته، سميرة كانت السيريا في حياة الأسطى رضا، وهي الآن سيريا حياتي أيضا.
أحفظ لهذا الرجل الجميل لذلك اخبرته بإعجابي بسميرة قبل حتى أن أبوح لها، فهو الصاحب والأب الروحي بالنسبة لي، لم يعترض بالعكس بارك الموضوع ووهب إيراد المحل لإتمام الزواج بعد موافقة سميرة، هنا بدأت الأزمة.
يعيش الأسطى رضا وابنته من الإيراد الأسبوعي القليل للمحل، أحيانا لا يكفي ذلك الإيراد لآخر الشهر، فماذا سيحدث بعد توفير جزء منه للزواج؟، منتهى الأنانية أن أسعد نفسي على حساب علاج وطعام ومصروفات الأسطى رضا ومنزله.
أبقيت على توزيع إيراد المحل كما هو، وبدأت في البحث عن عمل يوفر بعض الدخل الإضافي ليغطي تكاليف الزواج الضرورية، لم يطلب مني الأسطى رضا سوى الحفاظ على ابنته ولم يقل لي بعض الجمل المعلبة المحفوظة التي يقولها والد العروس في تلك المناسبات بحجة تعزيز العروس أو الإعلاء من قيمتها.
الأزمة الحالية أنني لا أفهم في شيء سوى الكهرباء، ومهنة والدي لم تعد صالحة الآن، قررت البحث عن عمل في المحال المجاورة، بين فرن الخبز ومحل (الانسجام) للكشري ومتجر الأدوات المنزلية الذي يبعد بشارعين عن محل الأسطى رضا، بالفعل وفر صاحب محل الكشري مكانًا لي داخل المحل وكان مرحبًا جدا خصوصا لأنه صديق قديم للأسطى رضا، بدأت العمل وأنا أشعر بالغربة، كأنني سافرت لبلاد أخرى وعالم لا أعلمه، عالم تعيس أعمل فيه بجسدي فقط دون أي وجود لروحي، أقضي النهار في تسوية المكرونة والعدس ووضعها أمام العامل المسؤول عن تعبئتهم للزبائن، أحصل على مبلغ يومية جيد لكنني غير سعيد، مرة أخرى أشعر بالأنانية، هل يحصل المرء على كل ما يتمنى؟، هل يجب أن أتزوج من أحب وأعمل في ما أحب، إذن أين هي التضحية؟، كلها أسئلة أوجهها لنفسي في كل مرة أقرر أن أترك محل الكشري إلى أن وجدت الحل.
الحل كان في الإجابة على تلك الأسئلة ومواجهتها، هل يجب أن أتزوج من أحب وأعمل في ما أحب؟ نعم على المرء أن يبذل قصارى جهده للحصول على ما يحب وأن يطمح و يطمع دائما في ذلك، إذن أين هي التضحية؟، قد تكون التضحية بوقت أو جهد أو حتى عمر كامل لكن النتيجة الحتمية يجب أن تكون الحصول على ما نتمنى، أو على الأقل يكفينا المحاولة، من هنا بدأت في التفكير في حل أزمة العمل الإضافي، الحل في تصنيع أسلاك السيريا وبيعها بجودة وسعر تنافس اكبر المحلات والمصانع، ولكن الصعوبة هنا في الحصول على منفذ بيع.
قررت يومها ورغم خوفي من مواجهة الزحام لضعف نظري والوسواس الذي يخبرني يوميا ان النظارة حتما ستقع مني في أي زحام وأصبح وحيدا ضائعا بين أقدام البشر حتى أموت، واجهت نفسي بوسواسي القهري وبالفعل اتخذت قرار بيع أسلاك السيريا بنفسي داخل عربات المترو، ذلك الزحام الذي عشت عمري بأكملة أخشى الوجود فيه، الآن أواجهه كما واجهت نفسي بإجابات أسئلتي.
عدت إليها مرة أخرى، تلك الأسلاك الكهربائية التي تتزين بلمض صغيرة تضيء أرواح الأماكن كان لديها حل المشكلة، إذن ف السيريا لم تكن دفعة معنوية فقط أضاءت حياتي، بل ساعدتني في الوصول لما أريد، أصبحت بعد شهور أحصل على أموال لا بأس بها من بيع أسلاك السيريا ، أدخر تلك الأموال للزواج وأعيش من أجري في محل الأسطى رضا.
10 أغسطس 2010 – ليلاً مستشفى الجيزة العام فور اتمامي للمبلغ المطلوب في عملية ولادة سميرة توجهت للمستشفى، أخبرتني الممرضة أنتي أصبحت أبا لبنت تشبه القمر، قلت لها تشبه الشمس مثل أمها، دفعت باقي التكاليف وفوجئت بسؤال احد الممرضات ( هتسموها ايه؟) لأقول لها دون تفكير ( هسميها سيريا).