المنافق بين التكلّف والتصنّع
كان السيد المسيح يكشف رياء الكتبة والفريسيين موبّخاً إياهم هكذا: “الويلُ لكم أيها الكتبة والفِّريسيّون المراؤون، فإنكم أشبه بالقبور المكلّسة، يبدو ظاهرها جميلاً، وأما باطنها فممتلىءٌ من عظام الموتى وكل نجاسة. وكذلك أنتم، تبدون في ظاهركم للناس أبراراً، وأما باطنكم فممتلىءٌ رياءً وفسقاً” (متى 23: 27-28).
نحن نعيش عصراً تغلب عليه المظاهر الخادعة والإعلانات والشعارات حتى يقع في فخاخها كثيرون.
لماذا تنساق الغالبية العظمى خلف رذيلة الرياء والنفاق؟ من المؤكد ستكون الأسباب متعددة من شخصٍ لآخر، على سبيل المثال نجد مَن يريد أن يصل إلى هدفه بالتسلّق على أكتاف الآخرين، ومَن يريد أن يظهر في أبهى صورة أمام الناس حتى لا يكتشفوا عيوبه، ومَن يريد أن يحصل على منصبٍ أو مالٍ أو شهرة أو غير ذلك.
في روايةٍ للكاتب Gunther Gress يتساءل: “هل شاهدنا ما وراء أي منصة؟ إذاً يجب على الجميع أن يتعودوا على رؤيتها قبل أن يجلسوا أمامها.
ومن يشاهد خلف المنصة سيتحصّن ضد أي طقس سحري يتم عليها بطرقٍ مختلفة”.
علينا أن نفهم هذا الكلام بطريقةٍ عملية لندرك خطورة الرياء الدائم والخداع المستمر اللذين يضرا الآخرين، فهو يشبّهه بطريقةٍ ساخرة بالمنصة، لنتخيّل جميعاً عندما يتم دعوتنا لحضور مناسبةٍ ما ونجلس أمام المنصة المزيّنة بالقماش الأنيق والمقاعد الفخمة والشعارات الزاهية والزهور، فمن السهل الوقوع في شِباك المُحَاضِر أو المتكلّم عندما يمسك بالميكروفون ويبدأ في إعلان حقيقة ما يدعو إليه ويتفاخر بصدقه وينشر وعوده.
ولكن إذا تفحّصنا ما وراء هذه المنصة ستظهر لنا حقائق أخرى مختلفة تماماً، لذلك يجب ألا ننخدع سريعاً بالمظاهر البرّاقة لمن يدّعون الكمال، وهذا التدريب ضروريٌ في أيامنا هذه لأننا ننخدع بالدعاية والإعلانات والمظاهر السطحية والتصنّع.
وكما يقول المثل: “تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وتستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت، ولكنك لا تستطيع أن تخدع جميع الناس كل الوقت”.
هناك أشخاص مقتنعون تماماً بأن الرياء هو امتياز وقوة لا عيب فيه، لذلك يحاولون أن يسوقونه للآخرين، ويزينونه حتى يظهر أنيقاً مُقْنِعاً سواء في الكلام أو الابتسامة أو السلوك اليومي، هؤلاء لا يفرّقون بين الفضيلة والرذيلة، معلنين أن الكمال يكمن في الحل الوسط، ولكن هذا “الوسط” بالنسبة لهم هو النقطة التي يصلون إليها لأنها موضع راحتهم ورضا الناس عنهم.
لكن ليس من الضروري أن يكون الحل الوسط هو الكمال والاعتدال والحق كما يدّعون، لأننا لا نستطيع أن نختار “الوَسَط” بين الخير والشر، الحق والضلال، العدل والظلم، بل يجب أن نميّز بين كل هذه الأمور، ونتحلّى بالفضيلة والخير والحق والجمال.
ونقرأ في الرواية الشهيرة “الخطاب القرمزي” للكاتب Nathaniel Hawthorne: “لا يستطيع أحد أن يظهر بوجهٍ أمام ذاته لوقتٍ طويل، وبوجهٍ آخر أمام الناس، لأنه حتماً سيصل إلى اللحظة التي لا يستطيع فيها أن يميّز أيهما الوجه الحقيقي وأيهما المزيّف”، هذه الكلمات هي اتهام قاس ضد الرياء والنفاق، ونجد تنبيهاً وتحذيراً هامين بأن الخداع من الممكن أن يستمر لفترة ما، ولكن اليوم أو الغد سينكشف ما بداخل الإنسان ويظهر على حقيقته ويتعرّى أمام الجميع.
مما لا شك فيه أن الجميع لديهم أسراراً خاصة بهم، ومن الممكن أن الغالبية تظهر بوجهين، الأول وهو العام الذي تظهر به أمام الناس، والثاني الحقيقي الدفين تكشفه لذاتها، ولكن كل هذا حتماً سينكشف يوماً ما، لذلك من الأفضل أن نعوّد أنفسنا على التصرف والظهور بالوجه الحقيقي أمام الجميع حتى لا نفقد ثقة الآخرين فينا. تحذرنا الكاتبة الفنلندية Leena Lander : “العقاب يصل بالإنسان للخنوع والرياء، فالتظاهر أو التكلّف هو بعيد كل البعد عن الحقيقة، ومن هنا يبدأ الإنسان بالتكلّف ليرضي الآخرين، وينتهي به الأمر ليكذب على ذاته”، إذاً يجب أن نعي تماماً بأن التخويف الدائم للأطفال لا يساعد على التربية الصحيحة والسليمة، كما أنه لا يبني شخصية حقيقية واضحة، نحن نعلم أن العقاب هامٌ جداً في مواقفٍ ما، وهذا يحثنا عليه أيضاً الكتاب المقدس، ولكن ليس المقصود به الترهيب والتخويف اللذين ينتج عنهما القلق والكآبة والخداع للدفاع عن النفس، ويصل بالإنسان أن يتصرف كالحرباء التي تغيّر جلدها لتجنب الأذى ويضل الآخرين حتى يصل إلى اللحظة التي فيها يجهل حقيقة ذاته، فالتصنّع ينتج عنه إنساناً مزيّفاً بوجهين، وفي نهاية المطاف يصل بصاحبه إلى تصديق الأكاذيب التي اخترعها وابتكرها. ونختم بكلمات الشاعر الفرنسي Paul Valery: “أن تكون أنت… يا لها من مهمة شاقة”.