المشير أبو غزالة
مصر ولادة دائمًا، فيها من الرموز والقدوة الكثيرون الذين نفتخر بهم في كل المجالات، والذين قدموا أرواحهم وعمرهم في سبيل أن تظل رايتها خفاقة بين الأمم، والذين ستظل صفحات التاريخ تذكر سيرتهم العطرة إلى آخر الزمان، ومن تلك الرموز الوطنية التي نقدمها اليوم هو المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، الذي ولد في قرية زهور الأمراء في الدلنجات بحيرة في 15 يناير 1930.
وترجع أصول عائلته إلى قبائل أولاد علي، وفي حارة ضيقة في شارع المهدي بميدان الحلمية؛ بنى مسكنًا من ثلاثة طوابق ليسكن فيه، وكان يعرف باسم ثروت بين أفراد عائلته وأقاربه، واستمر يسكن الحارة حتى بعد أن وصل إلى رتبة اللواء، وكان الرجل متواضعًا ومصدر فخر لكل من عرفه، وكان والده يعمل في مصلحة التليفونات بالإسكندرية، وكانت والدته ربة منزل، وحصل على الشهادة الابتدائية من الدلنجات.
أتم دراسته الثانوية في مدرسة عمر مكرم بدمنهور عام 1946، وكان ترتيبه الـ 13 على مستوى الجمهورية.
ثم التحق بالكلية الحربية وتخرج فيها عام 1949، وكان الأول على دفعته، ثم حصل على إجازة قادة التشكيلات للمدفعية من أكاديمية ستالين بالاتحاد السوفيتي عام 1961.
تزوج من السيدة أشجان صبري، وله منها ستة أولاد ثلاث بنات وثلاثة أبناء.
انضم إلى تنظيم الضباط الأحرار وهو برتبة النقيب، وشارك في ثورة 23 يوليو، وشارك أيضا في حرب 1948 وهو طالب بالكلية الحربية، كما شارك في حرب السويس 56، ولم يشارك في حرب النكسة 1967 حيث كان موجودًا بالمنطقة الغربية، وانقطعت الاتصالات بينه وبين القيادة ولكنه عاد ليفاجأ بالهزيمة.
وقد ذاع صيت أبو غزالة عندما كان قائد مدفعية لأحد التشكيلات غرب القناة، وذلك لتحليله المنطقي لأسباب الهزيمة ووعيه وأهمية دوره في رفع الكفاءة القتالية لجنوده، وكذلك انتقاده للقادة السياسيين والعسكريين لتسببهم في تلك النكسة، وهو الأمر الذي جعل الفريق محمد فوزي يضع اسمه في كشوف المعاشات وهو برتبة عقيد، وعندما علم بذلك لم يتراجع عن موقفه، ولكنه أعرب عن حزنه لو تم ذلك سيحرم من شرف الحرب ضد إسرائيل لعودة سيناء.
ولكن عندما عرضت النشرة على جمال عبدالناصر شطب اسمه، وقال: أعرف ما يقوله أبو غزالة عني وعن عامر، ولكنه من القليلين الصادقين وقال لن نفرط فيه.
وكان أبو غزالة قائد المدفعية في الجيش الثاني، التي لعبت دورًا كبيرًا مع تشكيلات الدفاع الجوي في حرب أكتوبر المجيدة، كما تخرج عام 1972 من أكاديمية ناصر العسكرية.
وكان لأبو غزالة مواقف مشرفة وبطولية في حرب أكتوبر، وقد نال نجمة سيناء الذهبية بعد أن نجح في تجميع نيران 24 كتيبة لحماية الفرقة 16 والجيش الثاني بأكمله من محاولات اختراق الجيش الإسرائيلي لهما.
وبعد انتهاء حرب أكتوبر تم تعيينه رئيسًا لأركان حرب المدفعية، وفي عام 1978 اختير ملحقًا عسكريًّا في الولايات المتحدة الأمريكية، كما حصل على دبلوم الشرف من كلية الحرب الأمريكية عام 79، وكان يعتبر أول شخص غير أمريكي يحصل على تلك الدبلومة، ثم اختير مديرًا للمخابرات الحربية عام 79، وفي عام 1980 تولى رئاسة أركان حرب القوات المسلحة، وتمت ترقيته إلى رتبة فريق.
بعد اغتيال الرئيس السادات كانت كفة أبو غزالة الأرجح في تولى الرئاسة، لحب كل أفراد القوات المسلحة له، ولكن فؤاد محيي الدين كان يميل إلى نائبه محمد حسني مبارك، وقد سعى مع صوفي أبوطالب رئيس الجمهورية المؤقت ورئيس مجلس الشعب وقتها، إلى ضرورة أن يختار الجيش من يراه بنفسه، ولكن فؤاد محيي الدين كان يريد مبارك وأراد أن يختبره أمام جمع من القادة والمسئولين وقال لأبو غزالة إن الغالبية اجتمعت على ضرورة تولي مبارك دفة الأمور، وهنا أشار الفريق أبو غزالة أن أحسنتم الاختيار فقد كان مبارك زميل دفعته في الكلية الحربية.
وفي عام 81 تم تعيينه بالحزب الوطني عضوًا بالمكتب السياسي، وتعيينه وزيرًا للدفاع ثم صدور قرار بترقيته إلى رتبة المشير في إبريل 82، وفي سبتمبر 81 تم تعيينه نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للدفاع في وزارة د. علي لطفي، ود. عاطف صدقي.
وكان لأبو غزالة علاقات قوية بالولايات المتحدة الأمريكية، وكانت مباحثاته معها في كل القضايا وليست العسكرية فقط، الأمر الذي وصل إلى تأجيل استقبال بوش لمبارك حتى يجري إصلاحات اقتصادية.
ولكن انتهى ربيع تلك العلاقة عندما قبضت أمريكا على عالم الصواريخ المصري، واعترف بجريمته لنقل شحنة كربون لتطوير برنامج الصواريخ المصري بدر 2000، والذي كان لا يعلم مبارك عنه شيئًا إطلاقًا، وهذا كان واضحًا من ثناء صدام حسين على المشير لدوره في البرنامج، ولكنه اكتشف جهل مبارك بكل التفاصيل وكظم مبارك غيظه من أبو غزالة. وهو الأمر الذي طالبت أمريكا من مبارك إقالته لسعي المشير إلى تطوير السلاح المصري وتحديث الجيش الذي أرعب العدو اللدود إسرائيل. وتم ذلك وعُيِّنَ مستشارًا للرئيس بلا صلاحيات حتى عام 93 واعتزاله العمل السياسي.
وذكرت بعض الصحف أن أبو غزالة كان يعتزم ترشيح نفسه للرئاسة، واتصل به مبارك فنفى ذلك، وحاولت أيضًا جماعة الإخوان أن يترشح وتدعمه، ولكنه رفض أيضًا لأنه يريد أن يخدم مصر وليس جماعة تأتي به.
والمشير هو أول من أنشا المصانع الحربية، ومنها مصنع 200 ومصنع 99، بالإضافة إلى مصانع الهيئة العربية للتصنيع، لتزدهر تلك المصانع ويتعدى تصديرها البليون دولار عام 84، كما أنشأ جهاز الخدمة الوطنية والمصانع الغذائية ليحقق الجيش الاكتفاء الذاتي من احتياجاته الغذائية.
أنشأ المشير أبو غزالة أيضًا المدن السكنية لخدمة الضباط وضباط الصف والأندية الاجتماعية والترفيهية مثلها مثل النقابات الأخرى بمصر. وكذلك من إنجازاته إنشاء الأفران، والمستشفيات العسكرية والتي فتحت أبوابها للمدنيين، وازدهرت الصناعات الحربية وبدأ في تصدير إنتاجها إلى الدول العربية والإفريقية، كما أقر قانون مكافأة نهاية الخدمة لكل من يخدم في القوات المسلحة المصرية، وأعدَّ الجيش إعدادًا قويًّا من التدريب والتسليح، وبذلك دخل في صفقات أسلحة جديدة للجيش المصري، وذلك أدى إلى تخوف واشنطن منه وطالبت بإقالته.
وكانت أحداث الأمن المركزي ذروة نفوذ وقوة أبو غزالة، وكان بإمكانه أن يصنع انقلابًا ويسيطر على الحكم، ولكن ضرب أروع الأمثلة في الوطنية، ورفض فكرة الانقلاب، وقال لكبار المسئولين الذين قابلوه وقتها إنه لا يرغب في الحكم، ولا يريد هدم قواعد الديمقراطية ولكن طموحه أن تكون القوات المسلحة المصرية أقوى جيوش العالم.
ونال المشير الكثير من الأوسمة والأنواط طوال مسيرته المهنية، منها قلادة النيل ونجمة سيناء ووسام التحرير ونوط النصر ونجمة الشرف، وغيرها، لما اضطلع به من أدوار طيبة ومشرفة خلال مسيرته المهنية.
كذلك قدم للمكتبة العسكرية مجموعة من المؤلفات التي تعد مراجع للعسكريين في مصر والعالم حتى الآن منها فن الحرب. وانطلقت المدافع عند الظهر والقاموس العلمي للمصطلحات العسكرية، كما ترجم مجموعة من الكتب، وأجاد اللغة الفرنسية والإنجليزية والروسية.
وقد نالت الألسن والشائعات من المشير ولكن أشهر تلك الشائعات هي علاقته بلوسي ارتين والتي يقال إنه توسط لها في نزاع قضائي بينها وبين زوجها، وأدى انكشاف ذلك إلى الإطاحة بثلاث قضاة ومساعدين من مساعدي وزير الداخلية، وكذلك شائعة زواجه من الفنانة صفية العمري وكان الغرض من تلك الشائعات تشويه رجل ذي صفحة بيضاء يحبه المواطنون قبل رجالات الجيش، وكانوا يتمنون سرًّا وجهرًا أن يترشح المشير ليكون رئيسًا لمصر. ولكن القيادة السياسية كانت تحاربه، خاصة بعد حادث الأمن المركزي، فوقتها كان المشير هو من يدير البلاد ويسيطر عليها.
ورحل المشير عن الحياة في 6 سبتمبر 2006، بعد صراع مع مرض السرطان في مستشفى الجلاء العسكري، وكان قد رفض أن يتم علاجه على نفقة الدولة، ورحل المشير الذي كان بإمكانه أن يغير تاريخ مصر الحديث.