مشاعر في البرطمان
هيوفر كتير الإنسان لو حاول يخليه حساس تجاه غيره بنفس درجة إحساسه بمتطلباته ورغباته هو الشخصية.. كتير من الأمور بتبقى واضحة زى عين الشمس بس ولإن فيه طرف قرر يتخّن جلده أو يتعامى أو يطنش عن عمد احتياج الطرف التاني فالأمور كلها بتبوظ وبيبقى الفراق هو عنوان الحكاية مهما كانت روعة بدايتها، في نفس الوقت أى علاقة زاد فيها إحساس كل طرف بالتاني هي علاقة مكملة للأبد مهما قابلت من مطبات خلال مدتها.
في التسعينيات كتب الصحفي "دوت أبراهام" عن قصة الزوج "بن" وزوجته "مارثا".. الاتنين اتجوزوا وربنا مارزقهمش بأطفال.. "مارثا" كانت حنينة جدًا على "بن" وكان عندها طبع غريب إنها ومن وقت معرفتهم وفي الخطوبة ولحد ما اتجوزوا كانت بتحس بيه قبل أي حاجة.. قبل ما يتعب.. قبل ما يكون جعان.. قبل ما ينطق الكلام هو عايز يقول إيه وتحس بيه إمتى محتاج يكون لوحده.. لكن بعد الجواز "بن" كان عنده مشكلة إنه كان بيحس بالضيق والخنقة كل ما بيدخل المطبخ.. السبب؟.
برطمان كبير محطوط على رف من أرفف المطبخ وقديم جدًا لدرجة إن ألوانه بهتانة ودايمًا "مارثا" تحذره إنه يقرب منه!.. ليه؟.. بعد جوازهم بفترة قصيرة أم "مارثا" جابت البرطمان ده لبنتها وقالتلها إنه فيه أعشاب سرية وعشان تحافظ على حب جوزها لازم تحط من الأعشاب اللي فيه في كل أكل تعمله.
وفعلًا وعلى مدار أكتر من 28 سنة جواز كل مرة كانت "مارثا" بتطبخ فيها كانت بتاخد البرطمان من على الرف وتفتحه وتدخل صباعين من صوابعها جواه وتنطر نطرة بسيطة من محتويات البرطمان على الأكل اللي بتطبخه.. سواء حلو أو حادق مش بتفرق؛ دايمًا نطرة الأعشاب موجودة وشريك أساسي في كل أكل بيتحضر.
كل مرة تنتوفة بسيطة جدًا عشان البرطمان مايخلصش.. الغريب إن أكل "مارثا" كان الكل بيشهد بروعته وطبعًا الفضل لأعشاب أمها السرية!.. "بن" كانت مشكلته الدائمة معاها (إنتي ليه مش عايزاني ألمس البرطمان حتى؟) وهي كان ردها الدائم عليه: (عشان ممكن تكسره ولو كسرته والأعشاب وقعت وخلصت مش هعرف أجيب منها تاني).. حاول كذا مرة لحد ما استسلم وطنش الموضوع تمامًا بعد ما حسبها ولقى إنه مش هيستفاد حاجة خلاص هي حرة خلّيها محتفظة بسرها أنا ماليش غير إن الأكل بيبقى تحفة وإنها بتراعيني وبتحبني فعلًا؛ بس مع الوقت بقى بيتحاشى يتواجد في المطبخ أصلًا.. "مارثا" تعبت في يوم بسبب ألم الزايدة الدودية اللي كانت ملتهبة.
"بن" جري بيها على المستشفى والدكتور قرر إنه يحجزها لتاني يوم الصبح عشان يعمل لها عملية استئصال الزايدة.. "بن" روح على البيت وهو حزين ومكتئب لأن دي أول مرة يبات فيها لوحده.. دخل المطبخ عشان يحضر أي حاجة ياكلها.. وهو قاعد على الترابيزة بياكل عينيه جت على الرف اللي عليه البرطمان.. فكر إنه يقوم يشوف جوّاه إيه وأهي فرصة إن مراته مش موجودة.. كان في تردد كبير بين الفضول وبين الأصول.. شوية قليلة وحسم التردد وقرر إنه ينزل البرطمان ويشوف إيه حكايته.. قام ومشي ببطء ومسك البرطمان وإيده بتترعش إنه يتكسر.. فتح الغطا.. لقاه فاضي!.
اكتشف إن تُقل البرطمان ماكنش عشان اللي جواه.. لأ.. ده كان بسبب وزنه الطبيعي.. يعني البرطمان إشتغالة لمدة 28 سنة! أكيد مراتي مجنونة!.. اتصعق من المنظر ولمح بطرف عينيه ورقة صغيرة ملزوقة في قاع البرطمان.. دخّل إيده الضخمة جوّه وطلعها وقرا اللي مكتوب فيها تحت ضوء مصباح المطبخ.. جملة واحدة بخط أُم مراته بتقول: (أوصيكي يا "مارثا" أن تضيفي قدرًا من الإحساس لتزيني به حبك وكل شيء تصنعينه لزوجك).. "بن" رجع كل حاجة مكانها زي ما كانت وقعد يكمل أكله بهدوء وعلى وشه ابتسامة بعد ما الدرس وصل وفهمه.. من وقتها وبعدها اتغيرت نظرته لزوجته وبقى يعاملها بإحساس ويمكن ده كان أهم سبب إن جوازهم استمر 57 سنة كاملة!.
الكاتب "ألبرت هوبارد": (قليل من الإحساس = كل شيء).. مش الكل بيعرف يفضفض ولا يحكي بس الكل بيحتاج اللي يحس بكلامه بدون ما يقوله.. هو عايز بس مش عارف وساعتها بيكون محتاج حد متطمن إنه هيلاقيه جنبه لما يقدر يستدعي شجاعته على الحكي.. الإحساس زي قرون الاستشعار تعرف إمتى أنا عايزك جنبي وإمتى محتاج أكون لوحدي.. اللي بيحس بيختصر سكك.. الإحساس بيوفر وقت، مجهود، تعب أعصاب.. طبيبي النفسي د."أحمد كامل" بيقولي في مرة: (أي بني آدم بياخد فترة عشان يوصل للحظة الانفجار.. تراكمات بتتكون وتتجمع على مراحل؛ ونفس البني آدم مش بيكون محتاج أكتر من كلمة تتقاله في نفس وقت الانفجار عشان تمتص غضبه.. بيكون مش محتاج أكتر من كلمة من حد يبان إنه حاسس بيه).