السيد زكريا محيي الدين
تحتل شخصيات مصرية معينة، مكانة متميزة في تاريخنا الوطني، وفي دائرة اهتمام المرء؛ فلا يكل عن البحث في حياتها وتاريخها، ومحاولة الوقوف على ملامحها الشخصية والفكرية، ومبادئها وقناعتها؛ وأبرز تلك الشخصيات هو الراحل السيد زكريا محيي الدين، أحد المؤسسين لتنظيم الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة يوليو 1952، ومؤسس المخابرات العامة المصرية، وأكثر رجال الدولة المصرية في العصر الحديث تجردًا وإنكارًا للذات في كل المسؤوليات التي تولاها والمهام الوطنية التي كُلف بها.
ولد زكريا محيي الدين في 5 يوليو 1918، وتوفي في 15 مايو 2012. وتولى أثناء حياته مناصب تنفيذية وسياسية متعددة؛ فقد عمل رئيسًا لجهاز المخابرات الحربية، ووزيرًا للداخلية، ومؤسسًا ورئيسًا لجهاز المخابرات العامة المصري عام 1954، ورئيسًا للوزراء من عام 1965 حتى عام 1966، ونائبًا لرئيس الجمهورية من عام 1961 حتى عام 1968.
قال عنه الراحل الأستاذ خالد محمد خالد في كتابه (لو شهدت حوارهم لقلت) واصفًا سماته الإنسانية والمهنية:
"كان زكريا محيي الدين رغم طيبته ونظافته معروفًا بالذكاء والصرامة في كل المناصب التي تولاها".
أما المستشار عصام حسونة، وزير العدل في حكومتي زكريا محيي الدين وصدقي سليمان، ومن بعدهما في حكومة جمال عبد الناصر بعد نكسة 1967، فقد قال عنه في كتابه ( 23 يوليو وعبدالناصر.. شهادتي) موضحًا صفاته الشخصية وأسلوب عمله وقيادته:
"زكريا محيي الدين رجل ذكي، حازم، حاسم، لا تهمه الشعارات بقدر ما تهمه الحلول الواقعية للمشكلات. كانت حكومته حكومة جادة، تتصدى في شجاعة لمشكلات مصر، وفي مقدمتها المشكلات الاقتصادية".
وتجمع كل الكتابات والشهادات التي قيلت في حق الراحل زكريًا محيي الدين، على اتصافه شكلًا ومضمونًا بتلك المعاني والسمات الشخصية والقيادية، وعلى أنه جسد بحياته وعمله وجلال حضوره، وحتى بصمته بعد اعتزاله العمل العام، نموذج "رجل الدولة كما ينبغي أن يكون".
ولو حاولنا أن نُعطي تعريفًا ووصفًا دقيقًا لنموذج رجل الدولة الذي تجسد في شخصية وحياة وأعمال السيد زكريا محيي الدين، فيمكن العودة إلى مقال (رجل الدول) المنشور بجريدة الأهرام في سبتمبر 2019، لأستاذنا الدكتور محمد نصر عارف الذي قال فيه:
"رجل الدولة يؤمن بالدولة والوطن والشعب كل الشعب، ويُسخر كل قدراته وإمكانياته لحماية مصالح دولته، والحفاظ على أمنها وتقدمها وازدهارها.
رجل الدولة هو رجل السياسة مضافًا إليه كل القيم العليا للدولة، وكل المثل العظمى للسياسة، وكل المعايير المعتبرة للقانون".
وقد فرق الدكتور محمد نصر بين رجل الدولة ورجل السياسة، فقال:
"رجل الدولة يختلف كثيرًا بل جذريًا عن رجل السياسة، رجل الدولة هو رجل السياسة الذي أتقن فنون السياسة، ووظفها لخدمة النفع والصالح العام، هو من يضع نصب عينيه مصالح دولته وأمنها القومي، ويعمل لشعبها، كل شعبها، من كان ضده ومن كان معه، من ينتمي لدينه ومن يكفر به، من ينتمي لطائفته ومن يعاديها، ومن ينتمي لعرقه ومن يتعالى عليه".
رحم الله أشرف وأخلص رجال مصر السيد زكريا محيي الدين، رجل ثورة يوليو الصادق الصامت، ورجل الدولة الوطني المنزه عن الهوى والمصالح الشخصية، العازف دومًا عن الأضواء، الذي نحتاج كثيرًا للتعلم من سيرته وحياته، والاقتداء به، كلٌّ منا في سياقه.
ورغم كل ذلك، فكم إن كنت أتمنى لو أنه كتب مذكراته، وأعطى شهادته للأجيال المقبلة، ولم يبالغ في صمته بعد اعتزاله العمل العام؛ لأنه حرمنا بصمته المطلق بعد من الوقوف على سيرة حياة رجل عظيم كان يُمكن أن يتعلم منها، ويسترشد بها الكثيرون، ومن الوقوف على تفاصيل أحداث وطنية بالغة الأهمية.