الحوار الوطني وحقوق الإنسان.. من أين نبدأ؟
دعا السيد رئيس الجمهورية لانعقاد حوار حول أولويات العمل الوطني على هامش حفل إفطار الأسرة المصرية في أبريل الماضي، بحضور عدد كبير من رموز وممثلي الأحزاب السياسية والمجتمع المدني علي اختلاف توجهاتهم. وكانت هذه الدعوة بمثابة تطور كبير في مسار بناء جمهورية جديدة تلبي تطلعات وطموحات الشعب المصري بمختلف فئاته. ومنذ هذه الدعوة انطلقت حالة من الزخم والتفاعل الإيجابي شهدت ترحيبا واسعا من قبل القوى السياسية بالمشاركة في الحوار الوطني تبعها تشكيل مجلس أمناء نابع عن توافق بين القوى السياسية المختلفة لإدارته، ومن ثم أشرف هذا المجلس على تحديد آليات إدارة هذا الحوار ومحاوره الرئيسية واللجان النوعية المنبثقة عنه. ولعل أحد أهم هذه اللجان النوعية هي اللجنة المعنية بحقوق الإنسان والحريات.
الحوار الوطني وحقوق الإنسان
ليس بالأمر المفاجئ أن تكون حقوق الإنسان هي أحد الملفات الرئيسية التي سيتناولها الحوار الوطني، بل إنه من البديهي أن تكون حقوق الإنسان على رأس أولوياته، وذلك لعدة أسباب.
أولا الحوار الوطني في حد ذاته يعد أحد أدوات تعزيز وممارسة حقوق الإنسان، خاصة الحق في المشاركة السياسية وكذلك الحق في حرية الرأي والتعبير، وبالتالي الحوار في أصله فلسفة تكوينه حقوقية بامتياز.
السبب الثاني يكمن في كون المحاور الثلاث للحوار سواء السياسية أو الاقتصادية أو المجتمعية تمس بشكل مباشر قدرة المواطن على ممارسة حقوقه المكفولة بموجب الدستور المصري والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، فمثلا النهوض بالمنظومة الصحية مرتبط بتعزيز بالحق في الصحة، وتعزيز دور الأحزاب السياسية وتمكينها مرتبط بالحق في المشاركة السياسية ودعم الصناعة لزيادة فرص العمل مرتبط بتعزيز الحق في العمل والحق في التنمية وهكذا.
السبب الثالث مرتبط بكون الحوار قد أتى لإيجاد وسائل وحلول تحظى بتوافق وطني لمواجهة التحديات التي تواجهها مصر في كافة المجالات، والتي لا تُستثني منها حالة حقوق الإنسان حيث إن احترام وتعزيز ونشر ثقافة حقوق الإنسان لا يزال يواجه تحديات حقيقية سواء على المستوى المجتمعي أو المستوى المؤسسي، وتستدعي هذه التحديات تعاطيا وتفاعلا إيجابيا لمعالجتها، ولعل الحوار الوطني أحد الأدوات الهامة للقيام بهذا الأمر وإن لم تكن الوحيدة.
تؤكد المعطيات الثلاث التي تم سردها في السطور السابقة مدى أهمية مسألة حقوق الإنسان في سياق الحوار الوطني، كأحد المواضيع الهامة التي تستدعي حلولا مبنية على دراسة وعلم لمعالجتها.
وهنا نأتي إلى عنوان المقال.. من أين نبدأ؟ هل نبدأ من الصفر؟ هل نتجاهل أي مكتسبات حققتها الدولة في مجال حقوق الإنسان خلال السنوات الماضية؟ الإجابة القاطعة هي بالطبع لا.
لإيجاد أي معالجات واقعية لأيٍّ من القضايا التي تتناولها محاور الحوار الوطني يجب الأخذ في الاعتبار السياق الذي سبق الدعوة إليه وما إن كان من الممكن استخلاص منه إطار عام ذو ملامح واضحة وتشخيص منضبط للتحديات وكذلك نتائج مستهدفة قابلة للتطبيق تعالج جذور القضية وليس أعراضها فقط.
ينطبق هذا تماما على مسألة حقوق الإنسان، فبالرغم من التحديات وأوجه القصور وحتى التجاوزات أثبتت القيادة السياسية امتلاكها الرغبة والنية الصادقة للتعامل إيجابيا مع هذه المسألة، وتترجمت هذه الإرادة إلى خطوة تاريخية هي الأولي من نوعها في تاريخ مصر تمثلت في إطلاق السيد الرئيس للاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في سبتمبر 2021، والتي تبعها مباشرًا قرار سيادته بعدم تمديد حالة الطوارئ. بذلك أعلن الرئيس ضمنيا ان مصر تجاوزت بشكل كبير الظرف الاستثنائي الذي فرضته تداعيات ثورتي 2011 و2013 وموجة الإرهاب والفوضى التي تبعتهما والان حان تعزيز مكتسبات عودة الاستقرار وانطلاق مسيرة التنمية بالالتفات بشكل جدي لحالة حقوق الإنسان والعمل علي تحسنها وتعزيزها.
حماية حقوق الإنسان
الاستراتيجية كما يعلم أغلب المراقبين هي خطة وطنية مقيدة بمدة زمنية (5 سنوات) تهدف الي تعزيز وحماية حقوق الإنسان بأفرعها السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال اتخاذ تدابير في ثلاثة مسارات وهي المسار المؤسسي التنفيذي والمسار التشريعي ومسار بناء القدرات في مجال حقوق الإنسان. والاستراتيجية لم تكن عملًا أحاديًا انما كانت في واقع الامر نتاج لعملية تشاورية واسعة النطاق شملت المجلس القومي لحقوق الإنسان والمجتمع المدني والبرلمان والخبراء والمثقفين وأغلب ما ابداه هؤلاء من ملاحظات او مقترحات تم تضمينها داخل نص وثيقة الاستراتيجية لتصبح نتاج عمل توافقي واسع النطاق. وأهداف الاستراتيجية تتمتع بشمول كبير يطال غالبية التحديات التي تواجه حقوق الانسان في مصر حيث انها ارتكزت في الأساس الي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والدستور ورؤية مصر 2030 والوثائق الثلاث بالتأكيد تمثل المظلة الشاملة التي تتناول حقوق الإنسان بكافة أبعادها.
وبناء على ما سبق يجب أن لا يبدأ المشاركون في الحوار من الصفر، ولا بد أن تكون الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان هي المرجع الرئيسي وليس الوحيد لما سيتوافق عليه المشاركون بالحوار الوطني فيما يخص مسألة حقوق الإنسان. وهنا يبرز سؤالان، الأول لماذا تكون الاستراتيجية المرجع الرئيسي؟ والثاني لماذا لا تكون المرجع الوحيد؟
الإجابة على السؤال الأول تكمن في الإرادة السياسية النابع عنها إطلاق الاستراتيجية، وكذلك في محتوى وثيقة الاستراتيجية نفسها. فالاستراتيجية نابعة عن إرادة وطنية ذاتية دافعها الوحيد هو حرص الإدارة الحالية علي تعزيز حقوق وكرامة المواطن كجزء من إعادة الصياغة الشاملة للدولة المصرية من خلال بناء جمهورية جديدة وضعت بناء البشر والحجر في صدارة أهدافها، وبالتالي الدولة وضعت على نفسها التزامات حيال ملف حقوق الإنسان، بالفعل من الأفضل أن يكون الحوار محفزًا لها بدلا من محاولة إعادة اختراع العجلة. والوثيقة نفسها بها نتائج مستهدفة طموحة تتعلق بجميع الحقوق بما في ذلك المدنية والسياسية، فعلى سبيل المثال الاستراتيجية بها أهداف تتعلق بإيجاد بدائل للحبس الاحتياطي وتعزيز المشاركة السياسية واحترام حرية الاعتقاد وحرية التعبير، وتمكين المجتمع المدني وتعزيز الحق في التنظيم. تمثل مثل هذه النتائج المستهدفة المنصوص عليها بكافة محاور الاستراتيجية خارطة طريق واضحة لإحداث تغير جوهري نحو الأفضل، فيما يخص تعزيز وحماية حقوق الإنسان في مصر، وحتى الآن الدولة لم تحقق الكثير مما جاء بالاستراتيجية رغم مرور عام على إطلاقها، والحوار الوطني قد يمثل دفعة مؤثرة وكبيرة لجهود إنفاذ بنود هذه الوثيقة.
أما بالنسبة للسؤال الثاني المطروح حول جدوى وجود مراجع أخرى بالإضافة للاستراتيجية لمعالجة الملف الحقوقي في سياق الحوار، فهذا يكمن جوابه في حقيقة ثابتة أي وهي أنه من غير المحبذ أن يكون للحوار سقف في أي من محاوره، وإن كانت التوافقات الناجمة عنه ستتجاوز الأهداف المنصوص عليها بالاستراتيجية، وتضيف إليها أهدافا جديدة فلمَ لا؟ طالما سيصب ذلك في مصلحة تعزيز تفعيل باب الحقوق والحريات بالدستور، وتدعيم التزام مصر بشرعة حقوق الإنسان الدولية التي صدقت عليها، وكانت من صانعيها، ولذلك لا أرى غضاضة في استحداث المزيد من الأهداف إذا تراءى ذلك لأطراف الحوار.
ولكن تظل الاستراتيجية هي الوثيقة الأكثر صلابة كمرجع رئيسي لهذه المساعي، لأن مراحل إعدادها شهدت حوارا وتشاورا واسعا أعطاها عمقا وشمولا يوفر على أطراف الحوار الوطني الكثير من الوقت والجهد، أي أن عملية إعداد هذه الاستراتيجية من الممكن اعتبارها تمهيدا مبكرا لمهام لجنة حقوق الإنسان والحريات المنبثقة عن المحور السياسي للحوار.
الحوار الوطني فرصة لانتقال جهود تأسيس الجمهورية الجديدة لمرحلة أكثر شمولا، لا تقتصر فقط على البعد التنموي والاقتصادي والثقافي؛ بل ستضم في طياتها أيضا البعد السياسي. وهذه المرحلة من أجل إتمام التحول لها بنجاح تتطلب مزيدا من الانتباه للتحديات التي تواجه حقوق الإنسان في مصر، ولعل تحقيق تقدم ملموس في هذه المسألة من شأنه أن يُشعر المواطن بجدية وصدق المساعي الوطنية الرامية لتشييد دولة مدنية ديمقراطية حديثة تحترم حقوق وكرامة وحرية المواطن ورخائه وتكفل له الحياة الكريمة. حققت الدولة الكثير في هذا الصدد، ولا يزال هناك الكثير من المنتظر تحقيقه لبناء هذه الجمهورية الجديدة، والحوار الوطني هو الفرصة التاريخية التي منحها السيد الرئيس لنا جميعا لنحقق ما نصبو إليه.