الجمعة 22 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

التعاطي الأمريكي مع ملف حقوق الإنسان في مصر.. هل من جديد؟

الجمعة 03/فبراير/2023 - 09:32 م

يعد ملف حقوق الإنسان تاريخيا إحدى النقاط المسببة لتوتر في العلاقات المصرية الأمريكية التاريخية المتشعبة. ودائما ما تتعرض مصر لانتقادات وضغوط من قبل الولايات المتحدة اتصالا بأوضاع حقوق الإنسان في مصر والتصور الأمريكي لها. وقد يبدو الاهتمام الأمريكي بالملف الحقوقي المصري أمرًا نبيلًا ولكن في حقيقة الأمر الحقائق المرئية والملموسة علي الأرض خالية من أي نُبل أو نوايا حميدة، حيث إن واشنطن تستخدم كارت حقوق الإنسان كورقة ضغط في إطار إدارة علاقاتها بالقاهرة، ودفع هذا التعنت صانع القرار المصري خاصة بعد ثورة ٣٠ يونيو أن يعيد النظر في طبيعة العلاقات المصرية الأمريكية عبر تنويع علاقات مصر الدولية من حيث التجارة والاستثمار الأجنبي والتسليح وغيرها من الملفات الهامة، مما حقق لمصر استقلالية حقيقية ومساحة أكبر للحركة في سياستها الخارجية، ومع هذا التحول أمعنت واشنطن على مدار ٣ إدارات أمريكية في استخدامها لملف حقوق الإنسان كورقة ضغط بشكل متفاوت. 

ولكن خلال العامين الماضيين بدأت الولايات المتحدة في تخفيف استخدام ورقة حقوق الإنسان في تعاطيها مع مصر وذلك لأسباب عدة نحن بصدد استعراضها في هذا المقال.

أولا، مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي أولت اهتمامًا حقيقيًا للبدء في معالجة ما تواجهه حقوق الإنسان في مصر من تحديات مجتمعية ومؤسسية، وتمثلت هذه الخطوات على سبيل المثال لا الحصر في إصدار قانون جديد للجمعيات الأهلية في 2019 يلغي القيود على عمل المجتمع المدني، ويعزز استقلاله وحريته، وأطلق السيد الرئيس الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان كخطة وطنية للنهوض بحقوق وحرية وكرامة الإنسان المصري خلال 5 سنوات، وألزمت الدولة نفسها في هذه الخطة بأهداف طموحة تعمل علي تحقيقها الآن. وتبع ذلك إنهاء الرئيس لحالة الطوارئ وإعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي التي استطاعت أن تؤمن الإفراج عن مئات المحبوسين وأخيرا إطلاق حوار وطني يضم جميع الأطياف السياسية بما فيها فصائل المعارضة لمناقشة لفيف من القضايا الهامة على رأسها حقوق الإنسان والحريات العامة. كافة هذه الخطوات الإيجابية حيال تعزيز حقوق الإنسان لعبت دورًا في تفريغ ورقة الضغط الأمريكية من معناها، ودفعت وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن خلال زيارته الأخيرة أن يقر بما حققته مصر من نجاح في هذا المجال. 

ولكن طبعا لا تكفي الحقائق المحلية وحدها لإحداث أي تغير جوهري في السياسة الخارجية الأمريكية، وينقلنا هذا إلى السبب الثاني للتغير النسبي في الموقف الأمريكي من ملف حقوق الإنسان في مصر، وهو السبب الأكثر تأثيرًا في رأيي، ويتلخص هذا السبب في التطورات التي طرأت على الساحة الإقليمية والدولية علي مدار العامين الماضيين. 

أثناء حملته الانتخابية هاجم السيد بايدن نظام الحكم في مصر بشراسة وتعهد بعدم إعطاء أي "شيكات على بياض" للمصريين، وعندما اعتلى سدة الحكم لم تحدث أي محادثات هاتفية بينه وبين القيادة المصرية، وازدادت العلاقات المصرية الأمريكية برودًا، واستمر الخطاب الأمريكي السلبي المغلوط حول حالة حقوق الإنسان في مصر، ولكن سرعان ما بدأت المعادلة تتغير مع العدوان الإسرائيلي على غزة في 2021، ولعبت مصر دورها الإقليمي المحوري كقوة رئيسية في المنطقة ببراعة من خلال وساطة ناجحة أدت إلى وقف العدوان وأخذت مصر على عاتقها إعادة أعمار القطاع وإزالة آثار الحرب. أدركت واشنطن أن مصر لا تزال مهمة ونافذة في المنطقة، ووقعت أولى المحادثات الهاتفية بين بايدن والسيسي في هذه المرحلة وثمن الرئيس الأمريكي الدور المصري ذي الأهمية الكبيرة. 

ورغم انخفاض التوتر المصري الأمريكي استمرت حالة الانتقاد لأوضاع حقوق الإنسان في مصر إلى أن وقع الحدث الدولي الأكبر في القرن الحادي والعشرين، الحرب الروسية الأوكرانية.

قلبت هذه الحرب موازين القوى في العالم، وغيرت الكثير من المفاهيم، وأخلت بالكثير من الثوابت. وكان لهذه الحرب التي لا تزال تلقي بظلالها الثقيلة وتوابعها القبيحة على العالم كله أثر واضح على العلاقات المصرية الأمريكية. حيث إن القاهرة التي تتمتع بعلاقات صداقة تاريخية بواشنطن تتمتع أيضا بعلاقة تاريخية بالغة الخصوصية بموسكو، وتوطدت هذه العلاقة بشكل ملحوظ بعد ثورة 30 يونيو حيث إن روسيا كانت من أولي الدول المؤيدة لإرادة المصريين على عكس الولايات المتحدة في هذا الوقت، ونشأت علاقة صداقة بين الرئيس السيسي والرئيس بوتين وتعمقت العلاقات على المناحي الاقتصادية والتجارية والتنموية والدفاعية، ومع الدخول الروسي في المنطقة في 2017 تناغمت مواقف وأهداف القاهرة وموسكو في تفاعلهن مع ملفات إقليمية خطيرة مثل ليبيا وسوريا، وإن كانت مثلا قضية كسد النهضة الإثيوبي لا تزال نقطة خلاف رئيسية. 

في ضوء هذه العلاقة الخاصة مع موسكو والعلاقات التاريخية العميقة مع واشنطن اختارت القاهرة أن تتخذ موقفا متوازنا يمنعها من الانخراط في الصراع الدولي القائم حول أوكرانيا، تمثل هذا الموقف في تأييد إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا في الأمم المتحدة باعتبارها دولة ذات سيادة، ولكن في الوقت ذاته رفضت مصر علنا العقوبات الاقتصادية الاحادية علي روسيا وحرصت علي الحفاظ علي روابطها بموسكو. 

عزّز هذا الموقف من مصداقية القاهرة وجعلها أحد وسطاء الحوار بين واشنطن وموسكو، كما تبين في زيارة بلينكن للقاهرة التي تبعتها بساعات زيارة وزير الخارجية المصري لموسكو. أبرز هذا دور مصر كلاعب دولي بشكل ملحوظ، دور جعل وزير الخارجية الأمريكي أثناء زيارته للقاهرة منذ أيام أن يثني للمرة الأولى على خطوات مصر الإيجابية في مجال حقوق الإنسان، كما رفض التطرق الي قضايا فردية تخص هذا المسجون أو ذاك في تحول نوعي للتعاطي الأمريكي مع الملف، وأكد أن الولايات المتحدة تتعامل الآن مع مسألة حقوق الإنسان في مصر بشكل كلي. 

طبعا اختيار واشنطن لقدر أكبر من الموضوعية في تعاطيها مع حقوق الإنسان في مصر هدفه هو عدم خسارة مصر كشريك هام في المنطقة، خاصة في ضوء ما يجمع القاهرة بعلاقات قوية بقوى كبرى وصاعدة مثل روسيا والصين والهند، حيث إن الاقتراب من هؤلاء وتعميق العلاقات والروابط بهم يضعف من النفوذ الأمريكي ويقلص مساحة تأثيره ولذلك تعمل واشنطن الآن على عدم خسارة شركائها غير الغربيين.

الجيوسياسة وصراعات القوى الدولية كما رأينا لها تأثيرها على تناول ملف حقوق الإنسان ويتضح أيضا مع مرور الأيام أن هذا الملف يُوظف سياسيًا من قبل القوى الغربية للضغط علي ما هو دون الغرب وابتزازه ليمتثل لما يخدم مصالحه.

مصر قدمت نموذجًا لكيفية التصدي لهذا النمط من إدارة العلاقات الدولية ونجحت في تنويع شراكاتها وعلاقاتها الخارجية لتصبح أقل اعتمادًا على الغرب على مدار السنوات الثمان الماضية. وبالتزامن مع ذلك قررت مصر معالجة الملف الحقوقي بإرادتها الذاتية من منطلق إعادة بناء وهيكلة الإنسان المصري وحفظ كرامته في إطار تشييد جمهورية جديدة تحقق أعلى معدلات التنمية الشاملة.

كل هذه الخطوات تعلن بوضوح أن مصر اليوم لم تعد مصر الثلاثون عام المباركية، ولا مصر الفوضى في 2011، ولا مصر الإخوان في 2012.. بل مصر اليوم هي مصر فقط بكل ما للكلمة والاسم من دلالات ومعانٍ عظيمة في التاريخ.. دولة كبيرة قيادتها حكيمة تداوي جراح الماضي وتنهي حالة الخنوع والتبعية، ولا تضع اعتبارًا في سياستها الخارجية إلا لمصلحتها القومية وتحرص على تعزيز وحماية حقوق مواطنيها من باب واجبها تجاههم وليس إرضاء لهذه الدولة أو تلك.

تابع مواقعنا