العربيزي ومسخ الثقافة والهُوية الوطنية
عندما سقطت مدينة غرناطة سنة 1492 وانتهت الدولة الإسلامية في الأندلس إسبانيا، صار المسلمون غرباء مضطهدين في تلك البلاد، ومارست السلطات الإسبانية الكاثوليكية المنتصرة عبر محاكم التفتيش ضغطًا شديدًا على من تبقى في البلاد من مسلمي الأندلس من أجل التخلي عن دينهم واعتناق الديانة المسيحية، والتخلي عن لغتهم العربية والتحدث باللغة القشتالية الإسبانية.
وفي سياق هذه الضغوط الرهيبة التي مورست ضدهم، قرر بعض المسلمين المضطهدين ممارسة طقوس الإسلام التعبدية في الخفاء، والحفاظ على ما تبقى لهم من تراثهم وثقافتهم العربية الإسلامية باللجوء لاستعمال لغة الألخميادو أو عجمية الأندلس، وهي لغة رومانية قشتالية كُتبت بأحرف عربية، فدونوا بها كل ما يتعلق بالإسلام وثقافته، في محاولة منهم للحفاظ بقدر الإمكان على ثقافتهم وهُويتهم العربية الإسلامي ونقلها لأبنائهم وأحفادهم.
ويمكننا هنا اعتبار لغة الألخمياد أو عجمية الأندلس، بمثابة أول شكل من أشكال لغة مستحدثة جديدة منتشرة بين الشباب اليوم، وهي اللغة التي يُطلق عليها اسم العربيزي أو لغة الفرانكو آراب.. لكنها على العكس من الفرانكو آراب الجديدة كانت لغة الألخميادو شكل من أشكال المقاومة الواعية، في محاولة أخيرة من الأندلسيين للدفاع عن لغتهم العربية وثقافتهم وهُويتهم وماضيهم ووجودهم التاريخي في الأندلس.
أما لغة العربيزي أو الفرانكو أراب، فهي أبجدية مُستحدثة ظهرت مع بداية تسعينيات القرن الماضي على نطاق واسع بين الشباب لاستخدامها في الكتابة والدردشة على التليفون المحمول ثم أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الذكية، وهي تستخدم حروف الأبجدية اللاتينية وأرقامها، لكنها تُنطق بالعربية.
وقد ظهرت في البداية لضرورات عملية لها علاقة بعدم اعتماد اللغة العربية ببرامج الكمبيوتر وأجهزة المحمول في بداية إصدارها، ثم انتشرت على نطاق واسع بين الشباب بعد أن أصبحت شفرة خاصة بينهم لا يترجمها ولا يفهمها غيرهم، كما أصبحت وسيلة للتعبير عن الرقي الاجتماعي والتميز التعليمي والطبقي.
وهذا أمر يحمل مخاطر كبيرة على اللغة العربية والثقافة والهُوية الوطنية، لأن استبدال الأبجدية العربية بالأبجدية اللاتينية، وجعل لغة العربيزي أو الفرانكو آراب أداة للتفكير والتعبير عند الأجيال الجديدة، هو تنفيذ غير واع لخطة المستعمر القديم في تغريب المجتمعات العربية وفصلهم عن ماضيهم ولغتهم وثقافتهم وهويتهم.. كما أنه يقلل إلى أقصى درجة من حصيلة الشباب من المفردات العربية، ويضعف مهاراتهم الإملائية وملكاتهم التعبيرية بلغتهم الأم.
وفصل المقال إن اللغة العربية مقوم أساسي من مقومات الثقافة والهوية الوطنية المصرية، وهي بصفة عامة وعاء الفكر وأداة التعبير عن ثقافة وبيئة وشعور الإنسان، ومرآة تعكس وعيه وما هو عليه في عقله وروحه.
وبناء عليه، إن لغة الفرانكو آراب التي ظهرت في البداية لضرورات عملية، قد صارت نتيجة لانتشارها الكبير- ربما على نحو مُخطط - أسلوب حياة وتفكير وتعبير لدى قطاع عريض من الشباب المصري والعربي، وبالتالي أصبحت أداة لمسخ اللغة والثقافة والهُوية الوطنية، وأداة لتغريب الأجيال الجديدة عن أوطانهم وتاريخهم وتراثهم، كما كان يريد أن يفعل المُستعمر القديم؛ وهنا مكمن خطورتها وآثارها السلبية على الثقافة والهُوية والشخصية الوطنية.