الجمعة 22 نوفمبر 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

خيار بطعم الموت..!

الإثنين 08/يوليو/2024 - 05:41 م

دائما ما تكون المواساة سهلة على ألسنتا إذا كانت المصيبة غير متعلقة بنا، وليست هناك مصيبة أعظم من الموت، والعبارات ساعتها تكون جاهزة ومنمقة: "شد حيلك"، "البقية في حياتك"، "كلنا هنموت"، "هي دي سنة الحياة"، وغيرها من الأكلاشيهات المتوارثة والتي لا تهون على أهل الميت فجيعتهم، بل على العكس تزيدهم حزنا وألما وحسرة!

أما إذا كانت المصيبة تخصنا فساعتها لا نحتاج إلى كلمات بقدر ما نكون في حاجة إلى تفسير ما حدث.. كيف حدث؟ ولماذا حدث؟ والأهم من كل ذلك: هل فعلا حدث؟!.. لا أبالغ حينما أقول إنني حتى الآن لا أصدق وفاة أبي رغم أنني من غسلته وأول من كان بجانبه منذ مرضه مرورا بصعود روحه الطيبة إلى بارئها واستخراج تصريح الدفن وشهادة الوفاة وانتهاء بمواراة جثمانه الثرى واستقبال المعزين!

بالطبع لا أعترض على مشيئة الله وإرادته، لكن الحدث أكبر وأسرع من قدرتي على استيعابه، رغم التمهيد الكبير لهذه الوفاة، التي أحمد الله أنها لم تأتِ فجأة، وأشكره أنها جاءت بهذه السرعة تخفيفا لآلامه من المرض اللعين الذي لم تشتد وطأته سوى وقت قصير، لكن هذه السرعة ذاتها تحتاج إلى وقت لاستيعابها وتأمل ما جرى خلالها من أحداث ومواقف قاسية ومريرة ومفجعة.

فخلال الأشهر القليلة الماضية بدأت حالة والدي الصحية تزداد سوءا يوما بعد الآخر، دون تشخيص واضح من طبيبه الذي يتابع حالته منذ سنوات، والذي اكتشفت مؤخرا أن مستواه العلمي لا يؤهله إلا أن يكون حلاقا أو "سباك صحي" على أقصى تقدير رغم أنه أستاذ جامعي في واحدة من أكبر كليات الطب بالجامعات المصرية! فبرغم ظهور جميع علامات المرض الخبيث على أبي منذ فترة طويلة إلا أنه لم يفكر يوما أن يطلب منه تحليلا واحدا -أي تحليل- ولا آشعة واحدة -أي آشعة- كل جهوده مجرد تخمينات وهمية وأدوية خاطئة والاكتفاء بسماعته اللعينة وجهاز السونار "الخربان" و"كان الله بالسر عليم"!

وسط هذا العبث الطبي علمت أن هناك عددا كبيرا وقعوا ضحايا لإهمال هذا الطبيب وماتوا بنفس الطريقة، لكن ماذا يفيد من كل ذلك فقد فات الأوان،  وكل محاولات إنقاذ أبي سواء داخل مصر أو خارجها أصبحت مستحيلة؛ لأنه وصل إلى مرحلة نهائية لن يفيدها أي علاج أو جراحة أو طبيب، وليس أمامنا سوى أن نرضى بقضاء الله وقدره ونؤهل أنفسنا لوداعه، والأصعب من ذلك أن نظهر أمامه متماسكين وأن نحبس دموعنا حتى لا يعرف طبيعة مرضه، وهي المهمة الثقيلة التي نجحنا فيها بفضل الله.

بالرغم من كل ذلك أخذت بنصيحة صديق عزيز وعرضت أبي على أكثر من طبيب من كبار الاستشاريين وأعدت إجراء التحاليل والآشعة أكثر من مرة، لعل يكون هناك خطأ في التشخيص أو التحاليل أو أمل -ولو ضعيف- في علاجه، لكن الرد موحد: "مرحلة نهائية.. أيام معدودة"، ونزلت على طلب آخر طبيب الذي رأى أن أفضل شيء يمكن تقديمه لأبي هو أن يقضي هذه الأيام الأخيرة من حياته داخل أحد المستشفيات التخصصية.

ثلاثة عشر يوما كانت عدة هذه الأيام المعدودة، قضاها أبي في مستشفى لم أشعر في حياتي بالرهبة إلا داخله، كنت مرافقا وملازما له في خمسة منها قبل أن ينتقل إلى العناية المركزة ومنها إلى الرفيق الأعلى.

في هذه الأيام الخمسة كنت حريصا على أن أطعمه الوجبات الغذائية التي تقدمها المستشفى بانتظام، ذلك المستشفى الذي تفوح منه رائحة الموت من كل مكان، بدءا من الاستقبال وحتى الرعاية المركزة التي كاد قلبي ينخلع في كل مرة تطؤها قدماي، وحين أنظر إلى سرير أبي والأجهزة الموضوع عليها، والتي لا تكف لحظة عن التصفير، ولساني يردد مرتجفا: "سلم يا رب".

وأمام رفض أبي تناول الطعام، وأمام فترة -لا أعلم مدتها بالتحديد- من عدم دخول معدتي أي غذاء، وجدتني أتناول إحدى الوجبات التي تراكمت داخل الغرفة، وفي هذه المرة شعرت بأن الموت قريب جدا مني، وتجسد أمامي قول المولى عز وجل: "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" وقول نبيه المعصوم: "الموت أقرب لأحدكم من شراك نعله"، وأحسست بطعم غريب للخيار المقدم مع تلك الوجبة المشؤومة، فهو ليس كأي خيار، ومع رائحة التعقيم والجو الكئيب للمستشفى واليأس والحزن زادت مرارته في فمي، ووجدتني أتوقف فجأة عن تناوله، إنه ليس خيارا عاديا، إنه خيار بطعم الموت.

تابع مواقعنا