النخبة الحقيقية والنخبة المعطوبة
بعض المهن في حياتنا، وهي المهن التي تُسهم بمخرجاتها في بناء الإنسان المصري وصنع شخصيته وثقافته ووعيه، مثل التعليم، والثقافة، والصحافة والإعلام، لا يمكن أن تكون ممارستها بدافع واحد فقط هو أكل العيش والوجاهة والبحث عن المصلحة الخاصة والترقي الاجتماعي والطبقي، ويجب أن يمتلك أصحابها وعيا وطنيا واجتماعيا وتاريخيا متميزا، وإحساسا عميقا وشبه رسولي بالمسؤولية الوطنية، ونزاهة إنسانية وفكرية.
وقد حفل تاريخ مصر السياسي والاجتماعي والثقافي الحديث والمعاصر، وتاريخ تلك المهن في بلادنا بالكثير من الرجال العظماء، الذين عشِقوا وطنهم، وأحبوا شعبه، وبذلوا الوقت والجهد ليقوم من عثرته، ويشفى من أمراضه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وينهض ويتقدم بالعلم والعمل، ويحتل المكانة التي تتناسب مع عظمة تاريخه ومقدراته المادية والثقافية والحضارية.
وهؤلاء هم نخبة مصر الحقيقية، وأبناء ملح أرضها، ورموز تجددها ونهضتها وقدرتها على مواجهة تقلبات الزمان. وهم الذين قرأنا عنهم ولهم، وتعلمنا منهم، ويضيق المقام هنا عن ذكر أسمائهم وأعمالهم وأثرهم الطيب في حياتنا الأكاديمية والفكرية والثقافية والصحفية والسياسية؛ ويكفيني فقط تحديد السمة الأساسية التي كانت قاسمًا مشتركًا بينهم جميعًا، وهي سمة النزاهة الفكرية.
والمقصود بالنزاهة الفكرية، هو "القدرة على تخليص النفس من تحيزاتها وأهوائها، ومحاولة النظر إلى الحقيقة في قلبها وصميمها، واعتبار الحقيقة هدفًا يُطلب لذاته بغض النظر عن انتماءاتنا وميولنا".
وذكر هذا التعريف الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور في كتابه "قصة الضمير المصري الحديث" الذي حاول فيه السياحة في وجدان وثقافة مصر في القرن التاسع والعشرين، وعرض مواقف عظيمة من سيرة وحياة نخبتها الحقيقية ودورهم الوطني في صناعة الإنسان والضمير والوعي الجمعي المصري في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ورأى صلاح عبدالصبور أن كلمة "النخبة" في مصر ظلمت كثيرًا عندما لُحقت بأهل الثراء والمال والأعمال والسلطة والنفوذ، لأن النخبة الحقة في أي مجتمع هي نخبة العقل والفكر التي تستهدف في قولها وفعلها الصالح العام وخدمة المجتمع والدولة.
كما رأى أن الانتماء إلى "النخبة" ليس ميراثًا أو منحًا، بل يأتي اكتسابًا بعد امتلاك سمات ومهارات وفضائل معينة يحتاجها المجتمع؛ منها فضائل تُنسب إلى عالم الأخلاق مثل الصدق والنزاهة والتجرد والكرم وغيرها. ومنها فضائل تُنسب إلى عالم القيم والمهارات، مثل القدرة على التفكير، والقدرة على الحسم واتخاذ القرار في المواقف المختلفة، وتنمية الإحساس بمعنى الولاء للوطن والتاريخ، والجرأة على اكتشاف حلول جديدة للمشكلات والمُعضلات التي تواجه الوطن، والقدرة على استشراف استشراف.
رحم الله الشاعر الكبير الراحل صلاح عبد الصبور، الذي أتاح لنا معرفة سمات وفضائل النخبة المصرية الحقيقية الرصينة الصالحة وأثرها الإيجابي في تاريخنا وثقافتنا وحياتنا العامة. كما عرفنا أهمية إعادة بنائها في مصر اليوم للقيام بدورها الوطني والمساعدة في بناء الإنسان المصري، ومواجهة كافة التحديات والتهديدات والمخاطر التي تستهدفها داخليًا وخارجيًا.
ولأن بضدها تتميز الأشياء والكائنات كما يقولون، فقد أتاح لنا الراحل صلاح عبد الصبور أيضًا أن نعرف في الوقت ذاته سمات "النخبة المعطوبة" التي تفتقد للنزاهة الفكرية بالمعنى الذي شرحه الراحل صلاح عبد الصبور، وتفتقد إلى الفضائل والمقومات الشخصية والمهنية للنخبة الحقيقة. وهي النخبة المعطوبة التي لا منفعة منها للبلاد والعباد؛ لأنها أشبه ما تكون بالنباتات العالقة المتسلقة التي تأخذ ولا تعطي، والتي يصبح وجودها دائمًا عبئًا على المجتمع والدولة.